بما أن الأنظمة العربية، وخاصة الجمهوريات أو الجملكيات، أممت كل شيء، وأخضعت كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والحزبية والأهلية والاقتصادية والتربوية والفنية والفكرية للأمن السياسي، فلا عجب أن تقوم بإخضاع المؤسسة الدينية لسلطانها، بحيث تصبح تلك المؤسسة مجرد خادم ذليل لدى الحاكم ونظامه. لطالما سمعنا في الماضي عن وعاظ السلاطين، ولا ضير في ذلك، لكن التغول الأمني داخل المؤسسة الدينية في عصر الديكتاتوريات العربية تجاوز مرحلة وعاظ السلاطين بأشواط طويلة.
لقد غدت مؤسسة الإفتاء في
العديد من الدول العربية أشبه بفروع المخابرات، وغدا العاملون فيها مجرد
عناصر أمنية آخر ما يهمهم نشر الدين الحنيف وتوعية الناس أخلاقياً وروحياً.
لقد أصبحوا بوقاً مفضوحاً للأجهزة الأمنية، وخاصة في بلد كسوريا، حيث يصعب
التمييز بين الخطاب الأمني والإعلامي الرديء للنظام وبين خطاب المؤسسة
الدينية، لا بل إن خطباء المساجد، وخاصة خطيب الجامع الأموي الشهير في
دمشق، يزايد على فضائيات النظام التعبوية في خطبه الرديئة، فقد وصل به
الأمر إلى تمجيد الرئيس الروسي بوتين الذي تقتل طائراته السوريين ليل نهار،
كما وصفه بأنه أحد الفاتحين، مع العلم أن وزير الدفاع الروسي اعترف بأن
الطائرات الروسية شنت أكثر من سبعة وسبعين ألف غارة جوية على المدن والقرى
السورية، ناهيك عن أن روسيا اعترفت على الملأ بأنها استخدمت أكثر من مئتي
نوع من الأسلحة الجديدة على الأرض السورية، بحيث تلوثت الأجواء والأراضي
السورية بالمواد المشعة لمئات السنين، مع ذلك لم يتورع خطيب الجامع الأموي
عن الإطناب في تمجيد الروس. حتى وسائل إعلام النظام تخجل من تمجيد الجيش
الروسي ورئيسه بنفس الطريقة التي مجده فيها مأمون رحمة.
لماذا أوغلت
الديكتاتوريات في تسييس المؤسسة الدينية، وحولت وظيفة المفتي وخطباء
الجوامع إلى مجرد أبواق أمنية مفضوحة؟ أليس من المخجل أن قرار تعيين مفتي
الجمهورية والخطباء وطبقة رجال الدين المعتمدة من قبل قسم الأمن السياسي في
المخابرات السورية؟ أليس من المضحك أن تصل خطبة الجمعة للخطباء من فروع
الأمن في سوريا وغير سوريا طبعاً؟ هل يخطب مأمون رحمة وأمثاله من الخطباء
العرب من رؤوسهم، أم مما وصله من فرع الأمن السياسي؟ لاحظوا أيضاً أن منصب
مفتي الجمهورية يصدر بمرسوم رئاسي… هل رأيتم مدى أهميته التعبوية والدعائية
بالنسبة للأنظمة الديكتاتورية؟ لا عجب إذاً أن المفتي وشلته يلقون علينــا
خطبــاً عن عدل سيدنا عمر بن الخطاب ،وفي نهـــاية الخطبة يدعون لحـاكم
قاتل مجرم لص يسرق قوت الشـــعوب ويشردها ويقتلها بالملايين.
وبما أن وظيفة المفتي في الديكتاتوريات العسكرية وظيفة أمنية وسياسية بالدرجة الأولى، فإن كل نظام يختار المفتي الذي يعبر عن توجهاته ومنطلقاته السياسية والحزبية والعقائدية، فإذا كان النظام يدّعي العلمانية والانفلات الاجتماعي مثلاً كالنظام السوري، فيقوم بتعيين «مفتن» مستعد أن يمشي في الشارع عارياً بحجة أن لا إكراه في الدين، ومستعد أيضاً أن يحلل الخمر والفاحشة بحجة أن «لكم دينكم ولي دين». وقد شاهدناه ذات مرة وهو يتشدق أمام وفد أمريكي في دمشق بليبراليته الإسلامية الصارخة، حيث قال حرفياً: «لو طلب مني نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن أكفر بالمسيحية أو اليهودية لكفرت بمحمد». وهي بلا شك رسائل سياسية من النظام للأمريكيين لا علاقة للمفتي الدجال بها أبداً، بل هو مجرد بوق يوصل رسائل سيده الدينية للغرب كي يرضى عنه ويعتبره متحرراً دينياً. ومعروف أنه كلما انقلب النظام على الدين لاقى تأييداً واحتضاناً غربياً أكثر. لهذا وضع على رأس المؤسسة الدينية مهرجين مستعدين أن يحللوا له كل شيء لإفراغ الدين من مضمونه وتوجيهه لخدمة الأهداف السياسية الدنيئة.
وإذا كان بعض الأنظمة العربية يريد أن يوهم الناس بأنه ملتزم جداً بالدين، وأن كل شيء في البلد يسير حسب التعاليم والقوانين الدينية فيقوم بتعيين «مفتي» يحرّم حتى الاستماع إلى زقزقة العصافير بحجة أنها حرام. وإذا كان النظام يدّعي التعايش ومحاربة الطائفية فيقوم بتعيين «مفتي» يحرّم حتى الحديث عن أي طائفة أو مذهب إسلامي آخر بحجة أن ذلك يثير الفتنة بين المذاهب والطوائف، مع العلم أن النظام نفسه يكون غارقاً في الطائفية والمذهبية حتى أذنيه، لهذا يتحجج بضرورة التعايش بين المذاهب والطوائف لا كي يسود الوئام بين الشعب، بل كي يحمي طائفته ونفسه من أتباع المذهب العام الذين يعاديهم في الباطن.
هل إذاً المفتي ورجال الدين في الديكتاتوريات العربية صوت الدين فعلاً، أم سوط المخابرات؟
فيصل القاسم - القدس العربي