الإعلانات
انتهت في سوريا مؤخراً حملة «ساعدونا لنصير أحسن» التي قام الإعلام السوري الرسمي بترتيبها، وتضمنت حواراً مطولاً مع وزير الإعلام عماد سارة، رد خلاله على انتقادات الجمهور المحلي التي وردت ضمن الحملة، عبر فواصل تلفزيونية وتقارير صحافية استطلعت آراء الشارع.
وزير الإعلام الذي اعترف بضعف وتردي الإعلام في بلاده بشر بإلغاء قريب للخطوط الحمراء في الإعلام الرسمي السوري، لكن الصحافي النائب بمجلس الشعب نبيل صالح رد متحدياً بمنشور عبر حسابه على «فيسبوك» بأنه لا الوزير «ولا حكومته مجتمعة قادرة على إلغاء خطوط الرقابة الحمر في بلادنا»، وقال: «لن نتمكن من إلغاء الخطوط التي يحلم بها وزير الإعلام دون أن يتقرب هو ذاته للخطوط الحمراء التي يعلم الشعب السوري جميعاً أين تكمن».
المفارقة أن حوار وزير الإعلام الذي بثته القنوات الرسمية لم يكن يبث مباشرة، فقد استغرق تسجيله 10 ساعات، بث منها 49 دقيقة فقط، مما يعني خضوعها لعملية «فلترة» صارمة، حسب صحيفة عربية حليفة للنظام السوري.
كلام سارة عن الخطوط الحمراء جاء متزامناً مع منع الممثلة أمل عرفة من الظهور في الإعلام الرسمي، عقوبة على اعتذارها من جمهور المعارضة لمشاركتها بلوحة تمثيلية كوميدية تسخر من ضحايا الهجمات الكيماوية في سوريا، مما دفع أمل إلى إعلان اعتزال التمثيل، والبحث عن مهنة أخرى، تماماً كما حدث مع الصحافي علي حسون، رئيس تحرير جريدة «الأيام» الذي اعتزل العمل الصحافي، وراح يبحث عن مهنة أخرى بعد اعتقال زميله الصحافي رئيف سلامة.
وشهد الإعلام الرسمي السوري تراجعاً كبيراً خلال سنوات الحرب، مع طغيان الإعلام الحربي على غالبية برامجه التي باتت مادة للسخرية والتندر في وسائل التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، عندما تعرض مطار المزة العسكري، غرب العاصمة دمشق، لضربة إسرائيلية العام الماضي، تناقلت وسائل الإعلام العربية والدولية والسوشيال ميديا الخبر لساعات، قبل أن يقرر التلفزيون الرسمي بث تصريح مصدر عسكري بأن سبب الانفجارات في المطار «ماس كهربائي»!
وتزايدت الانتقادات للإعلام الرسمي العام الجاري، مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في سوريا التي راحت تشتد تباعاً، فبدأت بافتقاد حليب الأطفال، ومن ثم الغاز والبنزين، وغيرها من أزمات لم يصمت الإعلام المحلي عن توضيح أسبابها فحسب، بل فبرك تقارير ميدانية عن ابتهاج السوريين بساعات الانتظار الطويلة أمام محطات الوقود، وتحويلها إلى وقت للترفيه وتدخين الأركيلة ورقص الدبكة. سذاجة مهنية اعتاد عليها مراسلو التلفزيون خلال جولاتهم الميدانية وتغطياتهم للحوادث المحلية، حتى المفجعة منها، كالحريق الذي أودى بحياة 7 أطفال في دمشق؛ حينها سارعت قناة الإخبارية إلى تغطيه مباشرة لزيارة رئيس الحكومة إلى موقع الحادث فوراً، وراح المراسل يسأل والد المفجوع بأطفاله السبعة عما ستقدمه له الحكومة من تعويضات لأثاث البيت المحترق، في تصرف يفتقد إلى الحد الأدنى من الحس الإنساني!
وعلى صعيد البرامج الأخرى، كأفلام الكارتون للأطفال، فإن الوضع ليس أفضل، إذ أثارت لقطة تظهر صدر فتاة عارٍ في مسلسل «ساسوكي» أزمة كبيرة داخل التلفزيون، بعد عاصفة من النكات في السوشيال ميديا، وصلت أصداؤها إلى وسائل إعلام دولية.
إعلامي سوري متوقف عن العمل بسبب التضييق الأمني قال لـ«الشرق الأوسط» إن الإعلام الرسمي السوري وجد نفسه في مأزق بعد تراجع العمليات الحربية، واستعادة النظام لمعظم المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة، فخلال سنوات الحرب «ظهرت مجموعة كبيرة من المراسلين الحربيين الذين دخلوا إلى العمل الإعلامي على متن الدبابة». وبعد تراجع العمليات الحربية، وتضاؤل مساحة تغطياتها في الإعلام، نشأ فراغ كشف ضحالة ما آل إليه الإعلام السوري الرسمي، والضعف الذي ضرب كوادره البشرية لأسباب كثيرة معروفة، في «مقدمتها المحسوبيات، وغياب حرية التعبير، وتدني العائد المالي، وسيطرة الأجهزة الأمنية على الإعلام»، وظهرت تأثيرات ذلك على الشاشة، وعلى شبه غياب للصحف عن منافذ البيع. ويتابع الإعلامي، تعليقاً على حملة «ساعدونا حتى نصير أحسن»، أنه لاحظ هروب الناس من الكاميرا، إذ لم تعد مثار فضول المارة، حتى الأطفال والمراهقين لم يهتموا للتحلق حول المذيعة واقتحام كادر التصوير، كما كان يجري سابقاً، لإرسال تحيات لملايين المشاهدين المفترضين، إذ لم يعد سؤال «شفتني بالتلفزيون» مدعاة للتفاخر؛ كاميرا التلفزيون الرسمي «غدت بعبعاً، وأسئلة معدي البرامج تطفلاً وغلاظة، بل نذير شؤم قد يعرض لمساءلة الجهات الأمنية». ويرد الإعلامي على ذكر موقف حصل مع صديقته بينما كانت تتأمل فترينا محل ألبسة في شارع الحمرا، وسط دمشق، حين داهمها ميكرفون التلفزيون الرسمي دون سابق إنذار، وسلط المصور العدسة على وجهها و«كأنها ضبطت بجرم مشهود، لم ينبس ببنت شفة، فقط أشاحت بيدها أن ابتعدوا عني، ما أثار غضب المصور الذي قال لها محتجاً: نحن لسنا ذباباً كي تشيحي بيدك هكذا».
ويقول الإعلامي السوري السابق: «المشكلة أن العاملين في الإعلام الرسمي يعانون من ازدراء الشارع، لكن لا يدركون أن السبب هو جهلهم بأبسط أدبيات الإعلام، كاحترام الخصوصية، وعدم تصوير أي شخص دون أذن مسبق».
الفواصل الترويجية لحملة «ساعدونا لنصير أحسن» التي أطلقتها وسائل الإعلام الرسمية السورية أواخر الشهر الماضي لاستطلاع آراء الجمهور المحلي حول أداء الإعلام الرسمي أظهرت هروب الناس من الكاميرا، حتى أن المذيعة أخفت شعار التلفزيون عن الميكروفون، عساها تستميل أحداً لقبول الحديث معها، علماً بأن غالبية الذين قبلوا قالوا إنهم لا يتابعون التلفزيونات الرسمية، أحدهم أكد أنه يتابع، ثم تراجع معتذراً بأنه من سنوات لم يشاهد التلفزيون السوري، سيدة أخرى وبعد إظهارها الاعتزاز بمتابعة الفضائية السورية، سألت المذيعة أي قناة تقصد «قناة سما أم قناة لنا»، والقناتان محليتان خاصتان بدأتا بالبث خلال سنوات الحرب (سما 2012، ولنا 2018)، في حين أن التلفزيون السوري يعد أوائل التلفزيونات العربية، فقد بدأ بثه عام 1960.
معظم الآراء التي انتزعها فريق حملة «ساعدونا لنصير أحسن» من الشارع جاءت على شكل جمل مبعثرة، من جمهور غير متابع، وجد نفسه فجأة أمام الكاميرا، وليس لديه ما يقوله عن شيء لا يتابعه، ولا يعرف إلى من سيصل كلامه. ومع ذلك، لم تخلُ الآراء من انتقادات عائمة تصح على الإعلام الرسمي السوري في زمان ومكان، كالابتعاد عن هموم الناس، وضعف الجاذبية البصرية، وغياب التشويق، والمضامين النمطية، وعدم الاهتمام ببرامج الأطفال والرياضة.
جريدة «تشرين» الرسمية التي نشرت نتائج الاستطلاع الذي أجرته ضمن الحملة ذاتها قالت إنها ركزت في العينة التي اختارتها على أساتذة وطلاب كلية الإعلام، لكنها لم تعثر بينهم على من يتابع الصحف السورية الرسمية الثلاث (تشرين والثورة والبعث).
ربما تلك النتائج كانت متوقعة، لكن ما لم يكن متوقعاً طرحها للنقاش كدليل على الجرأة، والنية الصادقة لتطوير الإعلام المحلي، لا سيما وقد اختتمت الحملة بلقاء مطول مع وزير الإعلام عماد سارة، قدم فيه جرد حساب لعمل وزارته التي قال إنها تتحمل جزءاً من المسؤولية عما يرتكب من أخطاء في الإعلام، فثمة أخطاء حصلت ليست مسؤولة عنها، متوقفاً عند أمرين: الأول التردي التقني، وسببه شح التمويل، فحزم الإرسال والتجهيزات اللازمة للحصول على صورة بدقة عالية يحتاج إلى «مليوني دولار»، طلب من المذيع أن يحسب قيمتها بالليرة السورية ليدرك حجم الرقم المطلوب (الدولار يعادل نحو 600 ليرة)، بينما البلد في حالة حرب و«الأولوية للقوات المسلحة، ودعم أسر الشهداء، وتأمين القمح»، مشيراً إلى الصعوبات التي تواجهها وزارته في تأمين حد أدنى من تمويل مستلزمات المذيعين والمذيعات من ملابس ومكياج.
الأمر الثاني الذي توقف عنده الوزير، ويتسبب في «فقدان الثقة بالإعلام الرسمي» برأيه، هو «سياسة الصمت» المتبعة في الإعلام السوري، مؤكداً أنها «لم تعد ناجحة»، وضرب نموذجاً بيان المصدر العسكري حول تعرض مطار المزة لضربة إسرائيلية، وقال حينها تريثنا ببث النبأ، بينما كانت وسائل التواصل الاجتماعي تتداوله على نطاق واسع؛ التريث «أدى لتشكيل رأي عام، وسمح لوسائل التواصل الاجتماعي بالتأثير على الرأي العام، لذلك لا يجب ترك هذه المساحة ليتم اللعب بها بعد الآن». الوزير سارة الذي استخدم كلمة «كُبحنا»، بصيغة المبني للمجهول، لدى حديثه عن وجود أخطاء لا تتحمل مسؤوليتها وزارته، لم يمتلك في حديثه «الصريح» جرأة تسمية الجهات التي تتدخل وتكبح العمل الإعلامي في سوريا، ولا الجهات التي تقبض بيد من حديد على الحريات العامة، محولة البلاد بكاملها إلى بقعة حمراء لا مكان فيها لخطوط حمراء كانت أم أي لون آخر عدا الخضراء.
صحيفة الشرق الأوسط السعودية
*النص والعنوان كما وردا في الصحيفة
الإعلانات